كتبت سيلفيا تشيبيت أن مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور في غرب السودان، تحولت إلى مقبرة مفتوحة بعد أن سيطرت عليها قوات الدعم السريع. جثث تنتشر في الشوارع، ومدنيون يتوسّلون الرحمة، ومسلّحون يطلقون النار بلا تردّد.
يصف طارق محمد نور، المؤرخ السوداني، في حديثه إلى TRT Afrika مشاهد الرعب قائلًا إنّ المقاتل الملقّب بـ"أبو لؤلؤة"، المعروف الآن باسم "جزّار الفاشر"، يوثّق جرائمه بفخر كما لو كان ينجز عملاً عظيماً. هذا الرجل، واسمه الحقيقي الفتح عبد الله إدريس، اشتهر كأحد أكثر قادة ميليشيا الدعم السريع وحشية. انضم إلى الميليشيا عام 2013 وصعد سريعاً حتى صار من أبرز وجوه الصراع الذي يمزّق السودان.
حرب لا تنتهي
اندلع الصراع بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني في الخرطوم في أبريل 2023، بعد التوتر الذي تلا الإطاحة بالرئيس السابق عمر البشير عام 2019. وفي مطلع نوفمبر، سيطرت قوات الدعم السريع على الفاشر بعد حصار دام 18 شهراً، لتتحول المدينة إلى مسرح لمجازر تُرى آثارها من الفضاء.
يقول تونش دميرتاش، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة مرسين بتركيا، إن ما يجري في الفاشر "جرائم ضد الإنسانية"، مضيفاً أنّ العالم يشاهد دون أن يتحرّك، ما شجّع الميليشيات على المضي في التطهير العرقي بلا خوف من العقاب.
ترخيص بالقتل
ذكرت وكالة الأناضول أنّ أبو لؤلؤة كان أحد الحراس المقرّبين من عبد الرحيم دقلو، شقيق قائد الدعم السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي)، منذ اندلاع المعارك في 2023.
انتشرت له مقاطع مصوّرة يتباهى فيها بقتل نحو ألفي شخص بيديه، ويظهر في أخرى وهو يضحك بعد إطلاق النار على مدنيين عُزّل. ورغم أنّ الدعم السريع أعلن "اعتقاله"، فإن المؤرخ نور يؤكد أنّ احتجازه استمر يومين أو ثلاثة فقط، ثم أطلق سراحه بأوامر من قيادات قبلية مقربة من دقلو، برسالة واضحة: "لا توثّقوا ما تفعلون".
يشير نور إلى أنّ ما يُعرض على الشاشات لا يُظهر سوى "قمة جبل الجليد"، متسائلًا: "إذا كان أبو لؤلؤة قتل ألفين، فكم قتل الآخرون حوله؟".
منذ 26 أكتوبر، نزح نحو 89 ألف شخص من الفاشر ومحيطها وفق بيانات المنظمة الدولية للهجرة، فيما يواصل الدعم السريع إحكام سيطرته على الولايات الخمس لدارفور، بعد سقوط آخر معقل للجيش هناك.
ذاكرة دارفور الدموية
انبثقت قوات الدعم السريع عام 2013 من بقايا ميليشيا الجنجويد التي استخدمها نظام البشير لقمع تمرّد دارفور عام 2003، حين قُتل ما لا يقل عن 180 ألف شخص بحسب الأمم المتحدة. يقول نور: "نعيش نسخة ثانية من مآسي دارفور الأولى".
وبعد أيام من مجزرة الفاشر الأخيرة، أقرّ حميدتي بوقوع "تجاوزات" داخل قواته وتعهد بالتحقيق، لكن الوقائع الميدانية تكشف استمرار القتل والنهب والتشريد.
تحذّر سليمة شريف، مديرة وحدة مناهضة العنف ضد النساء في الحكومة الانتقالية السودانية، من أنّ الدعم السريع يحاول التلاعب بالسردية عبر تصوير الجرائم كأفعال فردية، بينما هي سياسة منظّمة لإبادة جماعية تستهدف سكان الإقليم الأصليين. تقول شريف: "دارفور تعني أرض الفور والزغاوة والتنجر، لكن الميليشيات تحتفل الآن بتحويلها إلى دار لقبائل عربية أخرى".
عالم يشاهد ولا يتحرّك
يرى دميرتاش أن غياب الإرادة السياسية الدولية جعل القانون الدولي "اسماً بلا مضمون"، إذ لا هيئة أو مؤسسة قادرة على حماية الأبرياء. ويشبّه ما يجري في الفاشر بـ"غزة أخرى"، في نظام عالمي مكسور أخلاقياً وإنسانياً.
تُقدّر الأمم المتحدة أنّ 82 ألفاً من سكان الفاشر البالغ عددهم نحو 260 ألفاً فرّوا من بيوتهم هرباً من القتل أو التعذيب أو الاغتصاب، فيما لا يزال آلاف آخرون محاصرين داخل المدينة.
ورغم إعلان الدعم السريع موافقته على هدنة إنسانية بوساطة أمريكية في السادس من نوفمبر، رفض الجيش السوداني وقف إطلاق النار ما لم تنسحب الميليشيا من المناطق المدنية وتلقي سلاحها.
بين وعود التحقيقات وتراخي المجتمع الدولي، يبقى المشهد كما هو: مدن تشتعل، وأطفال يُهجّرون، وبلد ينهار بينما يتحوّل عذابه إلى عرض دموي في مرأى العالم.

